حدث في رمضان
غزوة بدر الكبرى
سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخبر تجارة لأبي سفيان "صخر بن حرب" قادمة من الشام، وفيها ثلاثون رجلًا أو أربعون منهم عمرو بن العاص، فنادى في أصحابه للحاق بتلك العير، لعل الله ينفلها المسلمون، وقد كانت قريش أخذت من المسلمين كرائم أموالهم وأراضيهم أثناء هجرتهم للمدينة من مكة.
وظن بعض الصحابة أنها مجرد سرية كالسرايا الاستطلاعية العديدة التي سبقت تلك الغزوة الكبرى، فبقى بعضهم في المدينة، وخاصة أنهم لم يكونوا يتوقعوا حربًا مع قريش، ولم يعزم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أحد بالخروج؛ بل ترك ذلك للرغبة والاختيار.
استطاع أبوسفيان حين وصله أمر تحرك المسلمين الإفلات بالقافلة من طريق آخر، وأرسل "ضمضم بن عمرو الغفاري" لاستنفار القوم بقريش لمجابهة المسلمين.
استصرخ "ضمضم" القوم، فخرج سادة قريش أجمعهم إلا من أقعدته الحاجة، يقول ابن إسحاق: "فكانوا بين رجلين: إما خارج وإما باعث مكانه رجلًا، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد، إلا أن أبا لهب بن عبدالمطلب بعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة، استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه قد أفلس بها"، وبلغ عددهم في بداية سيرهم (1300) رجلًا.
خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، وقال ابن القيم: "ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان: فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود، وكان معهم سبعون بعيرًا يعتقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد".
لما علمت قريش بنجاة القافلة بعد خروجها واجتماعها، هموا بالرجوع، ولكن أبوجهل سيد قريش أبى الرجوع إلا أن يسمع بهم العرب وبخبر هبتهم؛ فقال بتكبر وترفع: "والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم بها ثلاثًا، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر... وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدًا".
ولم يرجع من قريش سوى "الأخنس بن شريق" لما علم بنجاة القافلة، ولم يرغب في القتال، فرجع بقومه بني زهرة وكانوا (300) رجلًا، وكان مطاعًا، قال ابن القيم: "فاعتبطت بنو زهرة برأي الأخنس، فلم يزل فيهم مطاعًا معظمًا".
ولما وصل خبر خروج سادة قريش وصناديدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استشار أصحابه، وأنبأهم بتغير الوضع، فتكلم سادة المهاجرين (أبوبكر وعمر والمقداد) فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كأنه يريد أن يسمع رأي الأنصار، ففهمها سعد بن معاذ - رضي الله عنه - وتكلم بكلام كله خير، يؤكد فيه على نصرته والأنصار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وكان مما قاله: ".. قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق... فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجلًا واحدًا...). صحيح مسلم (1779).
فهنا فرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برأي أصحابه وعزيمتهم وقال لهم: (سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم).
وقد أشار الصحابي "الحباب بن المنذر" على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتغيير موقع تمركز الجيش، ودله على بئر "بدر" - ومنه أخذت الغزوة اسمها - للتمركز حواليه، وكان مما قاله الحباب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم - قريش - فننزله ونغور - نخرب - ما وراءه من القُلَب - الآبار - ثم نبني عليه حوضاً فنملأه، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون)، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أشرت بالرأي" وأمر الجيش بالتوجه نحو ماء بدر.
بنى المسلمون عريشًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تل مرتفع يقع في الشمال الشرقي لميدان القتال ويشرف على المعركة، وكان من أشار به سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فدعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- بخير وأثنى عليه.
وأما قريش فباتت ليلتها بالعدوة القصوى، وكانت تلك الليلة الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وكان خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- في 8 أو 12 من نفس الشهر، قال النووي: "كانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة".
وعندما أصبح الصباح أقبلت قريش بكتائبها، ونزل نفر منهم إلى حوض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يشرب منه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: دعوهم، فما شرب أحد منهم إلا قتل يومها، فيما عدا حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل وأسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وبعثت قريش بعدها "عمير بن وهب الجمحى" ليستطلع جيش المسلمين، فأتى إليهم بعدد القوم، وحذرهم من تصميم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على القتال رغم قلة عددهم وعتادهم، فاستخف سادة قريش بقلة عدد المسلمين وصمموا على القتال.
ولما تراءى الجيشان للقتال، دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: (اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني)، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بأن لا يبدأوا القوم بالقتال حتى يتلقوا منه الأوامر، وقال لهم: "إذا أكثبوكم فارموهم واستبقوا نبلكم". صحيح البخاري (2948)، وعند أبي داود: "وإذا أكثبوكم فارموهم بالنبل، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم". (أكثبوكم: أي اقتربوا منكم).
وقد كان أول من قتل من المشركين "الأسود بن عبدالأسد المخزومي"، قتله حمزة، وقد كان الأسود عهد عهدًا أن يقاتل حتى الموت أو يشرب من حوض المسلمين، فعاجله حمزة بالموت وهو على مشارف الحوض.
ثم دعت قريش للمبارزة فخرج من فرسانها: عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، فخرج إليهم عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبدالمطلب وعلي بن أبي طالب من المهاجرين، فقتل حمزة شيبة، وقتل علي الوليد، وأما عبيدة فتبادر هو وعتبة ضربتين وأثخن كل واحد منهما صاحبه، حتى بادر حمزة وعلي فقتلا عتبة واحتملا صاحبهما عبيدة وقد قطعت رجله وما لبث أن مات عبيدة من أثر الجراح بعدها بأربع أو خمسة أيام أثناء عودتهم للمدينة.
وهنا كرت قريش على المسلمين، وحمي الوطيس، وكانت المعركة مشهودة من جانب الملائكة يقاتلون مع المسلمين، وما لبث أن انقشعت المعركة عن هزيمة قريش هزيمة ساحقة، إذ فقدت قريش من خيرة أبطالها سبعين، وأسر سبعون، واستشهد من المسلمين في تلك الغزوة أربعة عشر رجلًا، وكان نصرًا مؤزرًا.
وقد برزت في تلك الغزوة العديد من المواقف والكرامات والبطولات النادرة التي تعد من ورائع الإيمان في هذه المعركة، ومنها:-
1- روى البخاري ومسلم وغيرهما أن عبدالرحمن بن عوف قال: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن فكأني لم آمن بمكانهما إذ قال لي أحدهما سرًا من صاحبه: يا عم أرني أبا جهل فقلت له: يا ابن أخي ما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، وقال لي الآخر سرًا من صاحبه مثله، قال عبدالرحمن: فما سرني أنني بين رجلين مكانهما فأشرت لهما إليه فشدا عليه مثل الصقرين فضرباه حتى قتلاه وهما ابنا عفراء - رضي الله عنهم أجمعين.
2- روى ابن إسحاق أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدل صفوف أصحابه يوم بدر، و في يده قدح (أي سهم) يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية وهو مستفتل من الصف (أي متقدم) فطعن في بطنه بالقدح، وقال: "استو يا سواد"، فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، فأقدني (أي اقتص منك). قال: فكشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بطنه، و قال: "استقد"، قال: فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: "ما حملك على هذا يا سواد؟" قال: يا رسول الله! حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك: أن يمس جلدي جلدك! فدعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخير.
3- سأل عوف بن الحارث - وهو الابن الثالث لعفراء - رسول الله فقال: ما يضحك الرب من عبده؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: غمسه يده في العدو حاسرًا، فنزع درعًا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل - رضي الله عنه.
4- وقاتل عكاشة بن محصن يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأعطاه جذلًا من حطب فقال: قاتل بهذه يا عكاشة فلما أخذه من رسول الله هزه فعاد سيفًا في يده طويل القامة، شديد المتن أبيض الحديدة فقاتل به حتى فتح الله تعالى على المسلمين، وبقي عنده حتى استشهد في قتال المرتدين.
5- جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثناء المعركة يكثر الابتهال والتضرع والدعاء، ويقول فيما يدعو به: "اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الارض" وجعل يهتف بربه - عز وجل - ويقول: "اللهم أنجز لى ما وعدتني، اللهم نصرك" ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه، وجعل أبو بكر - رضي الله عنه - يلتزمه من ورائه ويسوى عليه رداءه ويقول مشفقًا عليه من كثرة الابتهال: يا رسول الله بعض مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.
6- ثبت في الصحيحين، عن أنس، أن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر وكان في النظارة، أصابه سهم غرب فقتله، فجاءت أمه فقالت: يا رسول الله أخبرني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت وإلا فليرين الله ما أصنع، يعنى من النياح، وكانت لم تحرم بعد.
فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ويحك أهبلت، إنها جنان ثمان، وإن ابنك أصاب الفردوس الاعلى".
7- كان في يد عمير بن الحمام - رضي الله عنه -، أخو بنى سلمة، تمرات يأكلهن أثناء المعركة فسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والارض". فقال متعجبًا: بخ بخ! أفما بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلنى هؤلاء؟ قال: ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله.
8- قال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن حارثة ابن مضرب، عن على، قال: قد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أقربنا من العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا.
وقد قتل من المشركين بنهاية تلك المعركة سادات قومهم، وطرحوا في قليب بدر بعد المعركة، فعن أبي طلحة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر... ثم قام -صلى الله عليه وسلم- على شفا الركية فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟
فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يجيبون. صحيح البخاري (3976).
وقد سميت تلك المعركة بأسماء عديدة، نظرًا لمكانتها الكبيرة في تغيير حلقة الصراع بين الحق والباطل، وأطلق عليها في القرآن "يوم الفرقان"، وفي فضائل من حضر بدرًا من الصحابة رويت أحاديث كثيرة حتى أنه من أعلى رتب الصحابة رتبة "البدريين" وهم من شهدوا بدرًا، فعن رفاعة بن رافع - رضي الله عنه - قال: (جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة). صحيح البخاري (3992).
وعن علي - رضي الله عنه - في قصة حاطب بن بلتعة - قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). صحيح البخاري (2983 ).
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (لن يدخل النار رجلًا شهد بدرًا أو الحديبية). صحيح مسلم (2496).